مِنَ رَحِم الإِصغاءِ تَنبُعُ الحِكمَة

بصمت الباحث عن الحكمة صورة لإمرأة مغمضة العينين

لعلّك قابلت في حياتك عديداً من الشّخصيات المستفزّة الّتي لا تتوقّف عن الكلام، والّتي قد تكون متجسّدةً في صديقٍ لا يتورّع عن المزاح الثّقيل وحتّى في أحرج الأوقات، أو قد تكون تلك الزّوجة التي ما إن تلج باب بيتك حتى تمطرك بشتى أنواع التّبرم والشّكوى، أو ذاك المدير المتسلّط الذي لا يكفّ عن التنمّر إلا أن تبوء بفشله فتحمله على عاتقك طوال مسيرتك المهنية.

لعلّك تشعر بالسّخط كلّما قابلت مثل هؤلاء الأشخاص الّذين تعتقد أنهم سبب تعاستك، ولعلّك تودّ لو يخرسون، كي تنعم بعيشٍ هانئ لا يعكّر صفوه القيل والقال وكثرة السؤال.

ربّما يكون شعورك بهذا النّفور نابعاً من كونك حكيماً، أو أن هذا على الأقل ما تظن.

ولكن هل فكرت يوماً فيمَ يكون الدافع الحقيقي من وراء رغبتك في إسكات هذه الأصوات؟

في الحقيقة أنت تهرب من صخب هؤلاء إلى الأكثر صخباً! إلى جنون الحوارات التي يجريها عقلك بصورة تلقائية دون أدنى سيطرة منك، هذا العقل البارع في تشتيت انتباهك وإجبارك على متابعة كل فكرة مهما كانت سخيفة، وهو أكثر دهاءً منك في هذه اللعبة حيث يوهمك أنك أنت من يقود الحوار وقطار الأفكار ولكنك في الحقيقة تكون فقط إحدى العربات في هذا القطار.

هل فكرت يوماً في أن سبب تعاستك هو العقل الذي لم يعد مطيّة في هذا الزمان وأصبح هو القائد ونحن بدورنا أصبحنا منقادين لهذا الجامح يسحلنا في كل ميدان.

العقل مصمّم في الأساس لمساعدتنا في البقاء على قيد الحياة، هو يمارس دوره في الإستجابة السريعة للهروب من الأخطار وإنقاذنا في المواقف الحرجة التي تتعلق بالبقاء، ولكنه ما إن يُطلَق له العنان في غير وقته حتى يبدأ في تجسيد عالمه الخاص من صراع البقاء كي يحافظ على سيادته للمواقف، وبلا سببٍٍ وجيه تجده يخلق من كل موقف مسألة حياة أو موت، كي يحافظ على سيادته ويسخّر طاقاتنا جميعاً لخدمته، فيستهلكنا ويرهقنا في مطارداتٍ مستمرّةٍ خلف الأفكار التي يلقيها لنا كالطعم في كل لحظة وآن.

الحكمة تتطلّب أن نمارس دور الرّقابة على العقل لغربلة تلك الأفكار النّابعة من الجموح الذّاتي للعقل، وأن نفرّق بين الغثّ والسمين منها، وأن نرفع مستوى ذلك الصّوت الأصيل الذي هو تعبير عن الذّات الحقيقيّة خاصتنا، ويتوجب علينا أن نروّض تلك الأنماط الجامحة من نزعات التفكير، وأن نراقب هذا العقل لكي لا يمعن في التنمّر على الجوهر الذي أودع في فطرتنا لإعانتنا في أداء رسالتنا الحقيقية في هذه الحياة.

ما دمت لا تصغي فلن تسمع الحكمة تنطق، والعبد البار هو ذلك الذي يقضي جل وقته في صمت لعله يسمع مولاه حين يتوجه إليه بالحديث، والحكمة تنبع من الصمت الذي يتخلل الكلمات.

في الكون يسود ذاك الفراغ الذي يباعد بين الذرات، ويقدّر أن كل ذرات المواد لا تحتل سوى 4.6% من هذا الكون وتترك ما نسبته 95% من مساحة للمجهول الذي هو أسمى تعبير عن هيمنة السّكون المطبق والصّمت الذي يسود كل شيء.

يجب أن نصغي جيداً لأنّ أبلغ الكلام هو ذاك الذي يتدفق على لسان الصمت، ولأنّ الأصوات الصّاخبة التي ترتفع بلا سبب في دواخلنا تصمّ آذان القلب عن الإستماع لجواهر الحكمة.

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ